نزار الفراوي
بانقضاء شهر رمضان يودع المغاربة موعدهم مع مسالك روحية وطقوس عريقة توثق علاقتهم بهذا الشهر الكريم، ومن جملتها أمسيات السماع الصوفي والمديح النبوي التي يتم إحياؤها عبر ربوع البلاد في إطار مهرجانات وحفلات برعاية مؤسسات دينية ومدنية، رسمية وشعبية.
ويشكل السماع والمديح جانبا هاما من التراث الموسيقي والغنائي الزاخر الذي تميز المغاربة بالمحافظة عليه وتوارثه عبر الأجيال المتعاقبة منذ قرون خلت، وهو ما يرجع لقوة وتجذر المؤسسات الحاضنة للعمل الديني في المجتمع المغربي، من زوايا ومساجد وجمعيات، فضلا عن التشجيع الذي لقيه هذا النشاط الفني من قبل السلطات الرسمية منذ القدم.
طابع شعبي
كما يعكس صمود هذا الفن التراثي أمام تدفق الموجات الموسيقية الشرقية والغربية وانفتاح الشباب المغربي الواسع على صنوف الإبداع الجديد ثقل المرجعية الصوفية في بلاد طالما وصفت بأنها أرض الزوايا والأولياء، وصدرت نخبة من أبرزهم إلى الشرق العربي -وخصوصا مصر- من أمثال الشيخ أحمد البدوي والمرسي أبو العباس والحسن الشاذلي وغيرهم.
وتتخذ فنون السماع والمديح طابعا شعبيا في الفضاءات القروية والهامشية التي تنبع من متون شعرية عامية بسيطة وإيقاعات موسيقية غير مركبة، بينما تكتسي طابعا فنيا نخبويا لا سيما في أحضان الجمعيات المختصة والفرق المنظمة التي تشتغل على عيون التراث الشعري الصوفي المحلي والعربي والكوني.
كما وظف قوالب وإيقاعات موسيقية حديثة، على غرار التجارب التي تنتشر بأهم المدن المغربية ذات الثقل التاريخي والإشعاع الروحي من قبيل مدن فاس وطنجة وتطوان وسلا ومكناس.
ورغم انحدارهما من شجرة روحية واحدة، فإنه يجدر التمييز بين السماع الذي ينهل من الشعر الصوفي المناجي للخالق المتلمس لسبل التواصل مع الملكوت الأعلى والمديح الذي يعد جزءا من السماع، لكنه يختص حصرا باستحضار مآثر الرسول صلى الله عليه وسلم والتعبير عن الشوق إليه وتخليد محاسنه وصفاته.
تراث أصيل
وترجع بدايات ظهور فنون السماع بالمغرب إلى منتصف القرن السابع للهجرة لتشهد تطورا كبيرا في عهد الدولة المرينية ثم الوطاسية والسعدية وصولا إلى الأسرة العلوية. وارتبط هذا التطور بترسيخ تقليد الاحتفال بذكرى عيد المولد النبوي، التي دأب ملوك المغرب على رعاية إحياء أمسياتها بحضور مجموعات للمنشدين، قبل أن يتسع نطاقه إلى الفضاءات العائلية والزوايا.
وإن كان التقليد السماعي الأصيل يعتمد نغميا على الطبوع الأندلسية المغربية اعتمادا كليا دون مصاحبة آلات موسيقية، فإن بعض المجموعات العصرية نحت إلى إدخال آلات عصرية في مرافقة الإنشاد الصوتي. وقد برع المغاربة في أداء أمهات القصائد الصوفية من قبيل البردة والهمزية للبوصيري، والألفية لابن رشد البغدادي، والمنفرجة لابن النحوي وغيرها.
ويتوقف الكثير من المختصين في تاريخ الفنون العريقة بالمغرب عند الدور الذي اضطلعت به فنون السماع والمديح النبوي في الحفاظ على الموسيقى الأندلسية، التي يمتد عمرها قرونا طويلة، خصوصا خلال الفترات التاريخية التي عرفت نوعا من التشدد الديني ضد الممارسة الموسيقية، حيث ظل الباب مفتوحا أمام الإنشاد الديني في الزوايا، وهو ما ساهم في حفظ الطبوع والإيقاعات التي عبرت من الأندلس إلى جنوب الضفة المتوسطية.
وبالرغم من انتشار ألوان الموسيقى الجديدة بصيحاتها الأميركية والأوروبية، من قبيل موسيقى الهيب هوب والتيكتونيك التي تجد هوى كبيرا لدى الصغار والشباب، فإن المهتمين بهذه الفنون التراثية لا يبدون قلقين على مستقبلها في المغرب، بالنظر إلى انتشار وازدهار عدد كبير من المراكز والجمعيات التي تحتضن هذا الفن وتوثق متونه وتوطد أسسه العلمية الموسيقية وتجدد آفاقه الشعرية والإيقاعية وتؤهل شرائح من الفتيان والفتيات لحمل مشعله.
المصدر:الجزيرة