إبراهيم أبو عواد*
لا يخفى أن الأزمة السورية دخلت في مرحلة كسر العظم، ووصلت إلى نقطة اللاعودة. وفي الواقع إن النظام السوري هو الذي يتحمل مسؤولية إيصال الأمور إلى هذا الحد، لأن الأوضاع كانت تحت سيطرته، وكان بإمكانه أن يعالج قضية الاحتجاجات الشعبية التي بدأت بسيطةً وخجولة وذات سقف منخفض تنادي ببعض الإصلاحات وقليل من الحرية. لكن اللجوء إلى الخيار العسكري العنيف رفع سقفَ الاحتجاجات التي وصلت إلى المطالبة بإسقاط النظام، ودفع الكثيرين إلى حمل السلاح، وأوصل البلاد إلى الهاوية، فصارت سوريا تواجه تحديات حقيقية مثل الحرب الطائفية أو التقسيم.
والمضحك المبكي أن الوضع السوري الراهن قد خرج عن سيطرة النظام والمعارضة معاً، فأضحت سوريا ساحة للحرب بين قوى إقليمية ودولية. فإيران تدعم النظام السوري بالمال والرجال، وروسيا تدعمه بالسلاح والغطاء السياسي في المحافل الدولية، وفي الجهة المقابلة نجد قطر والسعودية تدعمان المعارضة بالمال والسلاح، وتركيا تدعمها بالدعم اللوجستي، أمَّا أميركا وبريطانيا فتدعمانها بأجهزة الاتصال الحديثة...
وهكذا صارت "الحرب بالوكالة" هي العنوان الرئيسي للوضع السوري. وبذلك يكون النظام السوري قد شرب من نفس الكأس الذي أذاقه للآخرين. فطالما خاض النظامُ السوري حروبه على أرض لبنان باعتبارها خاصرة ضعيفة، وجاء الوقتُ كي يخوض الآخرون حروبهم على أرض سوريا. وصارت سوريا اليوم مثل لبنان الأمس.
إن سوريا اليوم باتت مكشوفة للغاية، فهي مسرح لعمليات أجهزة المخابرات الإقليمية والعالمية، وما سَهَّل هذا الموضوع خروج مناطق شاسعة من قبضة النظام. وكل الدول صارت تدلي بدلوها في القضية السورية، وبالتالي لا معنى للحديث عن "السيادة السورية" لأن سوريا دولة فاشلة فقدت سيادتها، وأضاعت هَيْبتها، وها نحن نجد الدول الكبرى تتحدث باسم سوريا جهاراً نهاراً، وترسم مستقبلها، وسوريا آخر من يَعلم.
لقد دخلت الأزمة السورية في مسارات شديدة التعقيد، بحيث صار من المستحيل على النظام والمعارضة أن يحسما الحرب. فالنظامُ السوري بما يملكه من ترسانة عسكرية هائلة قد فشل طيلة سنة ونصف تقريباً أن يخمد الثورة، وقد عجز عن إخماد المعارضة عندما كانت ضعيفة، فكيف سيخمدها الآن وقد اشتد عودها، وصارت تسيطر على مساحات واسعة وتحقق العديد من المكتسبات على أرض الواقع؟. وعلى الرغم من ازدياد قوة المعارضة فهي لا تقدر على هزيمة الجيش النظامي بشكل تام، وذلك لاختلال موازين القوة العسكرية بشكل واضح. ويكفي أن نعرف أن الدفاعات الجوية السورية أقوى من دفاعات باكستان، وهي دولة نووية.
وهذه الحالة المعقَّدة ستفتح الباب واسعاً أمام العمل المخابراتي الذي سيكون بيضة القبَّان لترجيح كفة المعارضة على النظام؛ وآثار العمل المخابراتي واضحة، ويمكن رؤيتها بالعين المجردة. وقد تجلَّت في اغتيال أعضاء "خلية الأزمة" الذين يُعتبرون العقل الأمني للنظام السوري. فهذه العملية الدقيقة أكبر من قدرات المعارضة بكل أطيافها، وهي تحمل بصمات أجهزة مخابرات غربية. فالتكنولوجيا المتفوقة التي تم استخدامها في عملية الاغتيال أكبر من قدرات الجيش الحر. وقد تكون أكبر من قدرات أجهزة المخابرات العربية أيضاً. وهذا لا يمنع من وجود تنسيق مع عناصر سورية قريبة من دائرة صنع القرار.
كما أن حالات انشقاق المسؤولين الكبار تكشف دوراً مخابراتياً هائلاً. فالعميد المنشق مناف طلاس أو رئيس الوزراء المنشق رياض حجاب لَيْسا شخصَيْن من عامة الشعب، فهما تحت نظر عَين النظام، وتحت المراقبة والحراسة المشددة، وما خروجهما بهذا الشكل إلا دليل باهر على أن النظام السوري مخترق من الداخل، وأن العمل المخابراتي يؤتي ثماره.
ولا شك أن عمليات الاغتيال وانشقاق المسؤولين الكبار وتهريبهم إلى الخارج، تبعث برسائل للنظام السوري بأن يد الثورة السورية طويلة، وأن الداعمين لها قادرون على الوصول إلى أي مكان في الوقت الذي يريدونه، وأن لا أحد في مأمن بما فيهم رأس النظام الحاكم.
وفي واقع الأمر، إن القادر على الوصول إلى خلية الأزمة "داود راجحة، آصف شوكت، حسن تركماني..." قادر على الوصول إلى بشار الأسد أو شقيقه أو غيرهما من صُنَّاع القرار.
والمرحلةُ القادمة في سوريا سوف تكون مخابراتية بامتياز، تعتمد- بالأساس- على وجود منشقين ما زالوا على رأس عملهم، أي أن قلوبهم مع الثورة وألسنتهم مع النظام. وهؤلاء أخطر أنواع المنشقين، لأنهم يُضعفون النظام من الداخل فيتآكل ويضمحل. وكما قيل: مِن مَأمنه يُؤتى الحَذِر. فالنظامُ السوري البوليسي الذي يعتمد على الولاء الأعمى لا الكفاءة سوف يُنخَر من الداخل، وسوف تأتيه الضرباتُ من بعض العناصر التي يثق بها ثقة مُطْلقة.
إن الغرب يدرك أن الصراع في سوريا قد يدوم لسنوات عديدة، مما يؤثر سلباً على بُنية سوريا التحتية والفوقية، ويُسبِّب أزماتٍ كارثية لدول الجوار. وقد تشتعل المنطقة برمتها، وتدخل في حروب إقليمية ذات طابع عِرقي أو مذهبي، مما يهدِّد مصالح الغرب نفسه. والغربُ ليس لديه وقت ليُضيِّعه في انتظار تنحي الرئيس السوري المتشبث بالكرسي بأظافره وأسنانه دفاعاً عن مصلحته الشخصية ومصالح طائفته.
لذلك فإن التخلص من الرئيس السوري سوف يكون شعارَ المرحلة المقبلة في دوائر المخابرات الغربية، خصوصاً الأميركية. فالمخابراتُ الأميركية دَخلت على خط الأزمة السورية بقوة بعد أن قام الرئيس أوباما بتوقيع قرار يسمح لها بتقديم الدعم اللوجستي، وتوفير معدات الاتصال الحديثة للمعارضة. وما خفي كان أعظم.
ومن الواضح أن الرئيس السوري يشعر بالخطر الذي يقترب منه خصوصاً بعد اغتيال "خلية الأزمة" "الحلقة الضيقة المحيطة به"، لذا صار ظهوره نادراً، ويُغيِّر مكان إقامته باستمرار. وهذا ساهم في انتشار أخبار هروبه إلى اللاذقية، أو لجوء زوجته إلى موسكو.
إن النظام السوري المتآكل أضاع فرصاً ذهبية عديدة لإنقاذ نفسه والشعب والوطن. لكن الجاهل عدو نفسه. وقد اتسع الفتق على الراتق، وخرجت الأمور عن السيطرة، وإن مستقبل سوريا ضبابي للغاية بغض النظر عن الجهة التي ستصل إلى سُدَّة الحُكم.
___________
* كاتب من الأردن