محمد الفزازي / طنجة
منذ أن عرفتُ الصراع العقدي والفكري والتدافع القيمي بيننا نحن "الإسلاميين" وبين بعض من يوصفون بالتقدميين والحداثيين من العلمانيين والليبراليين... وأنا أجد لهؤلاء وصفا لنا بـ"الظلاميين". وفي كل مرة أبتسم لهذا الوصف المنطلق ممن هم غارقون فيه من الظلم والظلام و"الظلامية" إلى النخاع في حق متنورين وضائين متوضئين... الذين هم نحن... ولا فخر.
وصف بعض العلمانيين و"الحداثيين" لنا نحن المسلمين أو قل نحن "الإسلاميين" بالظلاميين يتحقق فيه المثل العربي الشهير: [رمتني بدائها وانسلت].
ما معنى [الظلاميون]؟
هو وصف لنا من القوم بسبب مرجعيتنا الإسلامية المنزلة من فوق سابع سماء منذ أربعة عشر قرنا ونيف... أي مرجعية، في زعمهم، موغلة في القِدم، أي في ظلمات العصور الوسطى، فيكون كل داعية إلى الإسلام داعية إلى الرجوع إلى عصور الظلام... أي ظلامي.
وهو وصف لنا من القوم بسبب أخلاق العفة والحياء... من ذلك حجاب المرأة المسلمة المتنافي تماما مع العري والسفور الذي يعرض جسد المرأة إلى ضوء الشمس ومصابيح إنارة الأزقة والمحلات... فيكون حجاب المرأة ونقابها حاجبا للضياء والنور... أو على حد قول الرئيس الفرنسي السابق ساركوزي سيئ الذكر [النقاب رق وعبودية] وتكون المتحجبة بهذا المنطق المختل: ظلامية.
وأمثالنا لا يرتدون الحانات والخمارات المليئة بالصخب والأضواء الكاشفة والملونة ولا يترددون عليها... ويجتنبون كل ذلك لعلهم يفلحون، فيكون هروبنا من هذه البهرجة وتعاطي المسكرات و"الاستمتاع" بأضواء العلب الليلية وما شابه من أنواع هذه "الحداثة"... انزواء في دهاليز الظلام... أي في الظلامية.
ثم كوننا نؤثر النكاح على السفاح، بل [تموت الحرة عندنا ولا تأكل من ثدييها] ونجد في الزواج منجاة لنا ولغرائزنا الفطرية والطبيعية من الكبت والوقوع في الفاحشة المقيتة والزنا البغيض بل والقرب منه كما قال الله تعالى: {ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا} كوننا كذلك يؤهلنا عند القوم لنكون ظلاميين بامتياز. كيف لا وهم ما عادوا يدافعون عن الزنا والزناة، فحسب، بل يعملون جاهدين على عدم تجريم الفاعلين، بل على شرعنة الفاحشة والاعتراف بها... لا بل يريدون شرعنة الشذوذ الجنسي والمثلية والسحاق أيضا بحجة أن هذه الظواهر موجودة في مجتمعنا وأن التكتم عليها نفاق اجتماعي سافر... [ولي في هذا الموضوع كلام فترقبوه] ثم كوننا نؤثر البيوت وصون الأعراض والتشدد في هذه الصيانة بآليات إسلامية معروفة... على ما سوى ذلك من الإباحية والتفسخ... عين الظلامية عند القوم.
وبالجملة فإن كل تعاليم ديننا الحنيف التي تصنع منا أناسا مرتبطين بدين الله، ومنضبطين بشرع الله، غير متفلتين من أحكام الإسلام، ولا متمردين على مبادئ الحلال والحرام، ملتزمين بأداء الصلوات الخمس حيث يؤذن لها، خاضعين خاشعين لله، ومتؤسين بسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم... أقول كل تلك التعاليم هي عند القوم "ظلامية" والداعون إليها "ظلاميون".
وعلى كل حال فمظاهر "الظلامية" كثيرة جدا عندنا... مثل هروبنا من مهرجانات "هشك بشك" وسهرات عرض فتنة الغواني وأجساد الفتيات الفاتنات وغير الفاتنات كذلك... وفرارنا من شواطئ العري والعراة فرار الضباء من قسورة. هو تأكيد لظلاميتنا...
واعترافنا بمؤسسة إمارة المؤمنين من حيث هي أسلوب شرعي من جهة، وإحدى عوامل الاستقرار في هذا البلد الأمين من جهة أخرى... ظلامية موغلة في الظلامية بالنسبة لكثير من هؤلاء العلمانيين... ولطالما نعتوا هذا الأسلوب في الحكم بالرجعية والتخلف، ونعتوا المؤيدين له بالرجعيين والظلاميين... ولا يزالون.
والأمْر الأمَر أن بعضهم لا يتورع في نعت أحكام شرعية منصوص عليها بالقرآن والسنة والإجماع بالظلامية... وعندما يكون صريح القرآن الكريم ظلاميا، ويكون صحيح السنة الشريفة ظلاميا، وكتب التفاسير وأمهات المراجع في الحديث، وكنوز الفقه الإسلامي المتراكم عبر التاريخ... رجعية وظلامية "وماضوية"، فاغسل يديك على القائلين سبعا آخرها بالتراب، فقد تودع منهم.
ولهؤلاء أقول:
إننا نحن المسلمين أو قل "الإسلاميين" نعبد الله جل في علاه، والله جل في علاه نور السماوات والأرض: {الله نور السماوات والأرض، مثل نوره كمشكاة فيها مصباح، المصباح في زجاجة، الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية، يكاد زيتها يضيئ ولو لم تمسسه نار، نور على نور، يهدي الله لنوره من يشاء، ويضرب الله الأمثال للناس، والله بكل شيء عليم...} [النور: 35]
ورسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم نور بنص من القرآن الكريم: {قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام، ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم} [المائدة: 15 / 16] وهو قول كثير من المفسرين.
والإسلام بعقائده وشرائعه وشعائره وأخلاقه وقيمه... نور الله. والذين يسعون في طمس معالم هذا الدين المشرق مآلهم إلى النار وبئس القرار. لأن الله تعالى متم نوره. قال الله تعالى: {يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون} [الصفّ: 8] والآية الأخرى المشابهة في : [التوبة: 32]
وكل ما يخالف نور الله تعالى الذي هو الإسلام، يسمى في دين الله: ظلاما، بل ظلمات... والمُخرِج من الظلمات، ظلمات الجهل والجاهلية والجهالات... هو الله تعالى. {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور، والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} [البقرة: 257]
وتأمل كيف وصف الله عز ثناؤه الإسلام بالنور [ مفردا] وليس بالأنوار [جمعا]، في حين وصف كل ما يخالف التوحيد والإيمان والحق... بالظلمات وليس بالظلمة. ذلك لأن الحق واحد لا يتعدد، وفي المقابل الباطل كثير ومتنوع... فتأمل.
وأقول كذلك: إن المعصية ظلمة. وكلما اقترف العبد معصية نكتت في قلبه نكتة سوداء. فإذا تداعت على هذا القلب المعاصي غمرته وأغرقته في الظلمات، وهو ما وصفه الله سبحانه وتعالى بالران... {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} [المطففون: 14]
وأصدق مفسر لكتاب الله تعالى هو سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وقد قال هذا النبي الكريم: [إن العبد إذا أخطأ خطيئة تكتب في قلبه فإذا هو نزع واستغفر صُقلت، فإن هو عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه، فهو الران الذي ذكره الله تعالى] رواه الترمذي وآخرون عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.
هذه إشارات فقط غاية في الصراحة على أن الظلاميين الفعليين هم أصحابنا الذين تعرفون. والظلام والظلمة والسواد... صفات لا تنفك عنهم سواء في معتقدهم أم في تصوراتهم أم في تصرفاتهم... في الدنيا والآخرة.
"الإسلاميون" أهل حق... ولا يخدش هذه الحقيقة أن فلانا أو علانا منهم حصل منه كذا أو كذا... من أخطاء. فالقاعدة هي أن أهل الإسلام أهل حق، والحق أبلج، والباطل لجلج... ومعنى لجلج: ضبابي وغير واضح ومتقلب... أي ظلامي. أما الاستثناء فما هو إلا استثناء.
وفي الآخرة نجد الصورة واضحة تماما: أهل الإسلام والإيمان متنورون، وجوههم بيضاء وضاءة... والذين عاشوا محاربين لهذا الإسلام العظيم بأي شكل من أشكال الحرب، وقضوا حياتهم معتقدين أن الاعتصام بكتاب الله تعالى وبسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ظلامية، وجوههم مظلمة وسوداء... أي الجزاء من جنس العمل.
قال الله تعالى: {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون}
{للذين أحسنوا الحسنى وزيادة، ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة}
{وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ووجوه يومئذ باسرة}
{وجوه يومئذ ضاحكة مستبشرة، ووجوه يومئذ عليها غبرة}
هذا وقبل إغلاق الموضوع، أريد أن أنبه أن ورود أوصاف بالكفر في بعض ما سبق من نصوص، إنما ورد وصفا من الله تعالى لمن هو سبحانه بهم أعلم، وأنا لست مشتغلا بإطلاق صفة الكفر على هذا وإطلاق صفة الإسلام على ذاك، ليس هذا مرادي في هذا المقال، إنما المراد أن أظهر للقارئ الكريم من هم بحق "الظلاميون" ومن هم المتنورون. أما أن يكون العلمانيون كفارا مارقين من الدين، أو مشركين وملحدين... فليس هذا من موضوع هذا البحث على الإطلاق.
أقول هذا لتفويت الفرصة على الذين يتربصون بنا خلف المنعرجات ليرفعوا نعرتهم القديمة ويرددوا أسطواناتهم المشروخة: التكفير والترهيب ومصادرة الحريات والإبداعات ... وما إلى ذلك من شنشنات "أخزم". فلقد أعلنتها واضحة صابحة من زمان. لا للعنف، ولا للإرهاب فكريا كان أم ماديا وجسديا... ولا للتطرف بكل أشكاله.
نعم للحريات، نعم للإبداع، لكن لا وألف لا لكل من يخرم ثوابت هذه الأمة بدعوى تناقض الدستور أو بدعوى تعارض الإسلام مع القيم "الكونية" وما إلى ذلك... فالقيم "الكونية" ليست شيئا أمام القيم التي وضعها رب الكون. وشرع الله يعلو ولا يعلى عليه... وستظل أحكام رب العالمين هي الأسمى والأعلى والأغلى... والأنقى والأبقى والأتقى...
وفي الختام، رمضان قد حل، فلنبادر بالصالحات... التي هي ضياء في القلب والمجتمع، ولنجتنب المعاصي التي هي... سوداء كقطع الليل المظلم، وفي الحديث الشريف:
[بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم...]
وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.