ميرفت محرم
الريف مهبط الشعر وخياله، ونبض مهجته، وملهم روعته وجماله... فهو المنهل الذي يروي ظمأ الشعراء، وعطش الفنانين والأدباء...
عند بزوغ الفجر يبوح الصبح بسره، ويبث طلائعه وبره، فتسمع حفيف الأطيار، التي تعانق النهار، لتبدأ الغناء والطرب، في ملحمة ملهمة، يشدو البلبل الصداح، فتهتف العصافير مهللة بقدوم الصباح، وهديل الحمام هلَّ وبَدَّر، والأرض يفترشها السندس الأخضر الذي يسحر العيون، برونقه ونضرته، وطيب نسيمه المداعب للغصون، والغيد الحسان يحملن على رؤوسهن بأمان تام جرارهن، ويتمايلن بدلالهن، وهن يضحكن طرباً بملء ثغورهن.
ها هو الريف بحسنه يتغنى الشعراء بجماله، ويقرضون الشعر في وصف حاله، من جداول ومزارع وهدوء وسكون، ووداعة وفتون، ففي الريف كما يقولون: الماء والخضرة والوجه الحسن... وفي وصف محمود غنيم الجمال تعبير عن حالة هيام تام حين قال:
"عشقوا الجمال الزائد المجلوب
وعشقت فيك جمالك الموهوب
كنت الطبيعة وجه أرضك سندساً
وحسبت نسيمك اٍذ تضوع طيبه
مالت على الماء الغصون كما انحنت
اُم تُقبل طفلها المحبوب......"
وأنشد البراري هاتفاً في وصف الحسان وهو يترقب حسناء تسلقت شجره التوت فأنشد:
"صعدت ترى الأغصان غصن قوامها
ما أشبه القامات بالأغصان
وحنت على بعض الغصون فخلتها
نشوانة مالت على نشوان
مدت أناملها فقلت لصاحبي
أرأيت كيف تقابل الثمران؟ !!!
توت بعناب الأنامل يجتبي
وما أرخص المجني و أغلى الجاني".
وتخيل الشاعر البراري الساقية تأتي على الفلاح البائس الحزين تبكي و تستعطف الدهر.
وبلغ الإعجاب بشاعرنا محمد طاهر الجبلاوي فصوّر خوار البقر وثغاء الغنم بالموسيقى والغناء وقد توهم وجود ظباء سمع بغامها فأنشد يقول:
"وخوار وثغاء ونعام
تبعث البهجه في كل مكان
هي موسيقى جلال واٍنسجام
تبعث الدنيا بها في مهرجان"
ها هو الريف أروى عطشهم وشكل قوامهم، وانتشوا بنسيمه وروائحه العطرة، فأطعمهم وأسكرهم بصوره النضرة، وأقرضهم شعره ذات مرة، ففاضوا به بفطرة وتلقائية حرة.