د. سعيد بوعيطة
على الرغم من أن عنوان هذه المقالة يوحي بتقديم شمولي للفكر النقدي البارطي. فإننا سنقتصر فقط على تحديد السمات التي تميزه. قصد إبراز الحقول المعرفية التي اهتم بها رولان بارط و المرجعيات الاساسية التي بلورت فكره النقدي.
يعد هذا الناقد من ألمع نقاد القرن العشرين ومن أعقد هم في الوقت نفسه" على مستوى التصور النقدي والمفاهيمي.".نظرا لتعدد تصوراته ومجالات اشتغاله"اللسانيات. النقد الجديد. السميائيات.الخ.". كما إهتم رولان بارط بالصورة في أبعادها المتعددة.حيث ربطها بمفاهيم أخرى. كمفهوم الإيقونة على سبيل المثال. ومفهومي اللذة والمتعة. إن رولان بارط، قد تميز حسب جون ستروك بالحركة المتواصلة . جعلت منه ذلك الناقد المتميز . إن هذا التجاوز قد ساهم في تحولات عدة في مساره الفكري و النقدي بسرعة الحركة.
يتجه في كثير من الأحيان وجهات لم تكن في الحسبان. وكل كتاب جديد ينشره هو بشكل واضح تجاوز لأفكاره السابقة و ليس تعزيزا لها.بهذا يسعى ذائما نحو التجديد والتجاوز"1".فقد أخد رولان بارط على عاتقه منذ البداية مهمة الإخلال بالاراء السائدة عن الأدب في فرنسا إخلالا يهزها من الأعماق. على الرغم من تمسك مدرسي الأدب في الجامعات بهذه الأراء.
وقامت الشهرة التي اكتسبها على ظهوره و كأنه اللعنة المسلطة على النقد الأكاديمي. برز هذا في الصراع النقدي بينه وبين ريموند بيكار.وتجلى في كتابه :نقد و حقيقة " باريس 1966"." عرف ترجمات عربية عدة "Critique et vérité لذا جاء فكره مركبا.لكونه قد عمل على بلورة مجموعة من الاطروحات النقدية التي قام عليها النقد الحديث.
بدءا من الاتجاه البنيوي وصولا الى ما اصطلح عليه بعلم النص. وكذا اهم التصورات اللسانية من فردنان دو سوسير وصولا الى نعام شومسكي. ان رولان بارط لم يكن مبتكرا لهذه التصورات و المفاهيم بقدر ما بلورها حسب رؤياه الخاصة. ففي مقالته المعروفة – مدخل للتحليل البنيوي للسرد ــ "المنشورة ضمن مجلات تواصلات -8- 1966". " عرفت هذه المقالة ترجمات عربية عدة ومختلفة في الوقت نفسه سواء تعلق الامر بالمصطلح او المعنى.". يرى بارط بان السرد ليس مهما في ذاته و انما الاساسي هو الكشف عن القوانين المشتركة التي تتحكم في هذا السرد"2 " " الرواية- القصة- الاسطورة الخ...".لذا انتهى بارط الى ما ذهب اليه سوسير فيما سبق. حيث بحث في القوانين البنيوية التي تجمع جل اللغات.
ان الخيار المطروح هنا حسب رولان بارط يكمن في اعتبار الرواية- مثلا- مجرد سرد لمجموعة احداث قد نربطها بالسارد او باشكال اسطورية ناتجة عن طريق الصدفة. او عبارة عن تكوين بنيوي بامكاننا تحليل مكوناته الاساسية. قصد الكشف عن القوانين التي تجمع سائر الانماط السردية.
لكن رولان بارط نفسه قد ادرك استحالة هذا الاجراء.ويرى بان سوسير نفسه لم يلتزم بالاجراءات البنيوية التي حددها في استنباط قوانين لغة من اللغات نظرا لتعددها. اذ اكتفى بنموذج عقلاني. قاس عليه باقي اللغات التي تناولها. لذا يرى بارط ببناء مثل هذا النموذج ليقيس عليه الاعمال السردية التي نتناولها بالبحث.
ان اغلب البنيويين لم يستوعبوا هذا التصور. اذ اعتقدوا بان التحليل البنيوي يهتم فقط بتحليل مكونات العمل في ذاته. الا ان سلبية رؤية بارط تكمن في تركيزه على العقل باعتباره مصدرا لاستنباط النماذج التي تقوم عليها البنى. و بالتالي فالبنيوية ليست وسيلة لتناول الاعمال الادبية . بل وسيلة لدراسة الكيفية المنطقية للادراك العقلي للوجود و الانسان. لقد شكلت مرحلة البنيوية اهم المراحل النقدية عند رولان بارط. اذ افرزت مجموعة من المفاهيم النقدية. كما كان لها التاثير الكبير على افكاره النقدية اللاحقة. من ابرزها" موت المؤلف- مفهوم النص- بين النص و العمل الادبي.الخ...".
1-موت المؤلف
يرى رولان بارط بان التحليل البنيوي يفترض بالضرورة ان يفقد النص مصدريته التي هي المؤلف. فحين ينتهي هذا الاخير من كتابة عمله يحكم على نفسه بالموت. ان موت المؤلف تعلن عن بداية حياة الكتابة. حسب هذا التصور البارطي فان المؤلف مجرد وسيط تستخدمه القوانين البنيوية من اجل اظهار العمل الى الوجود. ثم يختفي. كانه لحظة من لحظات التاريخ التي يمكن قراءتها باساليب متعددة.
انه يعتبر المؤلف وليد التجربة الانجليزية والعقلانية الفرنسية وقمة للوضعية المنطقية و الايديولوجيا الراسمالية. التي سعت ذائما الى اعطاء الفرد في التاريخ مكانة هو غير جدير بها.يرى بارط بان المؤلف لا يزال يعيش فقط في المجلات وكتب الببليوغرافيا. وفي النقد الادبي الذي يصر على دراسة شخصيات المؤلفيين. ان فشل اعمال بودلير " حسب بارط" هي انعكاس لفشل بودلير الانسان. فالمؤلف مجرد وسيلة يستخدمها العمل لفرض وجوده البنيوي. ان اول من لاحظ ذلك في فرنسا هو مالارميه الذي جعل شعره وسيلة لاقصاء صورة المؤلف.الا ان هذا الموقف عكسه الشاعر بول فاليري الذي كانت تسيطر عليه سيكولوجية الذات.
2- مفهوم النص
من خلال التصور السابق " موت المؤلف" يرفض رولان بارط تلك العلاقة الشرعية بين النص و المؤلف. لان النص حسب بارط لا وجود له قبل عملية الكتابة. لقد سبق ان اشار جاك دريدا الى هذه الفكرة. يقول بارط " نعرف الان ان النص لا يعبر عن معنى تيولوجي احادي فرضته مرجعية خاصة. وانما هو فضاء جمعي فرضته كتابات عدة و مختلفة."" 3 ".لا تعتبر اي من هذه الكتابات مرجعا مصدريا للنص.لان هذا الاخير لا يخرج عن كونه طبقة من طبقات كثيرة. لذا ل يوجد ن في عالم حقيقي. بل جل النصوص في فضاءاتها الخاصة. تخلق عوالمها الذاتية التي يتعذر النظر اليها خارج فكرة تداخل النصوص او التناص.فكرة بداها الناقد ميخائيل باختين وعمقتها الناقدة جوليا كريستيفا. واخد بها نقاد اخرون من قبيل" رولان بارط- جيرار جينيت- فيليب سولرز الخ...".
يرى بارط بانه بمجرد ازالة المؤلف من عالم النقد. لذا فاية محاولة لتحليل معنى النص لا جدوى منها. لكون النص يفقد معناه و يسبح في فضاء لا نهائي. تصور استقاه بارط من جاك دريدا والمنهج التفكيكي. ان هذا الاخير ينطلق منتصورات فلسفية. وارتبط اساسا بالفيلسوف الالماني فريدريك نتشه ونقده للميتافيزيقا وثوابتها. ينتهي بارط الى كون المؤلف هو اكذوبة الناقد وخدعته التي يحاول ان يفرض من خلالها افكاره على الاخرين. لكونه لا يتجه الى مؤلف معين بل يتحدث باسم المجتمع و التاريخ والايديولوجيا.يذهب بارط من خلال هذا التصور الى كون النقد قد فقد اهميته كما فقدها المؤلف.
ان الناقد يحاول اخبارنا اشياء قد لا تكمن في النص.لان الكتابة جمعية بالضرورة.بمعنى اننا لسنا بحاجة الى فك رموزها قصد الوصول الى المعنى الكامن داخلها كما يذهب اصحاب النقد الجديد. بل نحتاج الى فك رموزها من اجل السباحة معها في فضاءاتها. هكذا تضيع المعاني ويصبح النقد غير ذي جدوى. في هذا الاطار تتوجه الكتابة الى القاريء " كيفما كانت ثقافته". واعلان ميلاد هذا القاريء هو بمثابة اعلان عن موت المؤلف" كما اشرنا". لكن هذا التصور يثير اشكالية فكرية وقانونية. فحين نقتني العمل الادبي من المكتبة. فاننا نؤدي ثمن حقوق التاليف والنشر و التوزيع. فكيف ناخد بفكرة موت المؤلف ونحن ندفع له ثمن انتاجه؟ ان جواب رولان بارط عن هذا السؤال جاء متضمنا في مقالته – من العمل الى النص-.
3- من العمل الى النص
يرى بارط بضرورة التمييز بين هذين المفهومين. ان العمل ذا طبيعة مادية. يشغل فضاءا معينا. ويمكن ان تلمسه اليد. اما النص فنصل اليه عن طريق الادراك فقط. بهذا يرفض رولان بارط التقسيم التقليدي للاجناس الادبية. كما يرفض كذلك الوقوف عند الاعمال الادبية الجيدة فقط. لان الكاتب حسب هذا التصور قد يكون فيلسوفا او مؤرخا الخ..."4 ". كما ان النص يفسر وفق نظرية الدال و المدلول. ولا يرتبط بما يسمى بالفيلولوجيا العلمية. لكونه عملية تاجيل مستمرة للدلالة في الفضاء النصي.
اذ يخضع الدال لتحديد لا نهائي. لتصبح قراءة الدال مجرد لعب في فضاء النص. وينتفي اي بحث عن المعنى التام في النص. يختلف العمل عن النص كذلك في كون الاول يرتبط بالمؤلف الذي يحاسب الناشر عن عدد المبيعات " النسخ". ويقاضي في المحاكم من يسطو على عمله الادبي . ان العمل " حسب هذا التصور" لا يختلف عن السلع الاستهلاكية الاخرى. اما النص فعكس ذلك. انه مجال للمتعة اللانهائية.
4-تجاوز الفكر اللساني
يذهب بارط الى انه لا يعمل على بناء نظرية للنص الادبي.لكون هذه الاخيرة صعبة التحديد. لارتباطها بالنص ذي الملامح الهلامية.ان ازمة النص " حسب بارط".
في الغرب ليست وليدة اليوم. بل مرتبطة بالثقافة الغربية برمتها. منذ الرواقيين وصولا الى القرن السابع عشر. انها محاولة ربط الدال بالمدلول " البحث عن الدلالة".
بروابط لا تنفصم وفق ضوابط عقلية يكون القاريء في اطارها محاصرا. يتعلق الاول باستعادة المعنى الذي في ذهن المؤلف والثاني يرتبط بالتفسير والشرح. من هذا المنطلق يكون النص مطابقا للعمل او على الاقل صورة اخرى منه. يقوم هذا المفهوم للنص "حسب بارط" على ميتافيزيقا الحقيقة التي لا وجود لها في عوالم النص الحقيقية.
بهذا التصور يتجاوز بارط الفكر اللساني البنيوي. لان المجال اللساني يرتبط اساسا بالجملة وليس بالنص. لان هذا الاخير ليس مجرد جملة كبرى" على الرغم من كون بارط قد سبق واعتمد ها التصور خاصة في مقالته- مدخل للتحليل البنيوي للسرد- المتضمنة في مجلة- تواصلات-العدد8 . 1966." بل نظام يتعذر تعريفه في ضوء المجال اللساني. اذ لا يصبح النص وسيلة من وسائل الاتصال " شان اللغة".بل مجالا أو فضاء للدلالة. يعترف رولان بارط في هذا الاطار بالتاثير المباشرللباحثة جوليا كريستيفا .في حين لا يذكر تاثير الفيلسوف جاك دريدا على الرغم من الحضور البارز لهذا الاخير في الفكر البارطي.
يخلص رولان بارط الى كون مجموعة من المفاهيم التقليدية للابداع ترتبط بنوعين من الخطاب. الاول تاريخي و الثاني فيلولوجي.حيث يكون العمل شيئا مغلقا. يكتشف من خارجه. لكن حقيقة الامر ان هذه الاعمال لا تتضمن معان مضمرة. بل مجرد فضاء يسبح القاريء في مجاله . انه نفس تصور جاك ريدا. الذي يرى بان النص لا يملك سوى اللغة. لغة اللعب الحر و اللانهائي. وبهذا يرفض بارط فكرة وجود الناقد .
اذ لا يوجد سوى المنظر و القاريء الذي يسبح مع النص في اللانهائي او اللادلالة.
______________
الهوامش
"1" البنيوية و ما بعدها " من ليفي شتراوس الى دريدا" ، جون ستروك، ترجمة : الدكتور محمد عصفور، سلسلة ـ عالم المعرفة ــ " الكويتية"، العدد : 206، فبراير 1996، الصفحة: 75.
"2 " Barthes" Roland".introduction à l’analyse structurale des récits in" communication- 8- 2ème tr. Ed seuil. Col. Point. Paris. 1987. P.13.
"3" Bartes " Roland". S/Z . 1èr tr. Seuil. Point .paris. 1976. P. 68.
4- بارط " رولان". النقد والحقيقة. ترجمة. محمد برادة.