عبد المجيد الحمداوي
شؤون أمازيغية. . . وفتوحات عربية.
في برنامج "شؤون أمازيغية" استضاف الأستاذ أحمد عصيد السيد مصطفى أوعشي. مصطفى أوعشي هو "أحد الباحثين المعروفين في التاريخ القديم في المغرب"، كما وصفه السيد عصيد. أوعشي شدد في سياق حديثه عن تاريخ المغرب القديم على نعت الفتوحات الإسلامية ب "الفتح العربي". فحاول جاهدا تلخيص تفسيرَ اختياره هذا ولكنه لم يوفق. فلم يصدر منه أكثر من: "الفتح العربي مَشِي الفتح الإسلامي. الفتح العربي، لأن الإسلام كدين شيء آخر! " وهذا التفسير المقتضب، البسيط والمبسط يعكس باعتقادي صعوبة إقناع الآخر بالتشكك في صدق نوايا الفاتحين المسلمين. لعل ذلك راجع بالأساس للمستوى الأكاديمي لضيف البرنامج ولهذه الحلقة من "شؤؤن أمازيغية" ككل. فإذا كان المشاهد بناء على تقديم عصيد الجميل لضيفه 'الكبير'، قد توقع مستوى فكريا أكبر بكثير مما قدمته الحلقة لمتتبعيها، فإن هذا المشاهد قد أصيب بخيبة أمل كبرى أفسدت عليه متعة الفرجة والاستفادة. لأن البرنامج اعتمد بالخصوص على كيل الاتهامات لكل شيء دون توضيح أي شيء، وهو أمر لا تتوقعه من باحثين يشتغلون في حقل البحث العلمي. خاصة إذا تعلق الأمر بتخصص ضيف البرنامج ومجال بحثه العلمي: تاريخ المغرب القديم.
فتدوين وطريقة تدريس هذه المادة كلها في نظره، نقائص وعيوب. فقد طالب السيد أوعشي بإيعاز وتشجيع من السيد عصيد، بإعادة كتابة التاريخ والتاريخ القديم على الخصوص. فبعدما اتهم ضيف البرنامج الجهات المتخصصة المكلفة بتهييء كُتب التاريخ المدرسية، بعدم الكفاءة المهنية وبالجهل بمادة التاريخ كما اتهمها أيضا بقلب وتحريف الحقائق التاريخية، تعطش مشاهد الحلقة لسماع الجديد والمفيد عن حضارات المغرب القديمة التي سبقت بداية الإسلام (أو الفتح العربي كما سماها ضيف البرنامج). تعطش المشاهد لمعرفة ما لم يعرفه حتى الآن عن أزمنة المغرب الغابرة وعن الحقائق الدامغة التي غُيبت وطُمست عن سبق إصرار وترصد. غير أن سماع الجديد من متخصص "باحث معروف" في التاريخ القديم لم يحدث. لم يأت السيد أوعشي بأي إغناء ولا إثراء للمدون والمعروف حتى الآن. لم نسمع منه ما يثير اهتمامنا سوى الحقيقة التي سماها "علمية وحديثة الإكتشاف" والتي مفادها أن "الإنسان الأول العاقل" أصله من شمال إفريقيا، وبذلك فإن سكان المغرب الأصليين لا ينحدرون من اليمن ولا من الشام وإنما العكس هو الصحيح في نظر السيد أوعشي. وبهذا قد يتساءل المشاهد: إذا لم يكن هناك من جديد مفيد يستحق الإضافة فلماذا إذًا إعادة كتابة التاريخ؟ لماذا العناء ولماذا الجهد إذا كان ذلك لا طائل من ورائه! هل تعاد كتابة تاريخ المغرب فقط للإشارة إلى أن موطن الإنسان العاقل الأول هو شمال إفريقيا؟ لا أعتقد أن ذلك سيغير شيء ذا قيمة، هذا في حالة إذا سلَّمنا أن "حقيقة" ضيف البرنامج تلك هي فعلا حقيقة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.
غزو واحتلال عربي أم هو فتح إسلامي حنيف؟
لم تتوفر الشجاعة الكافية للسيد أوعشي حسب اعتقادي، ليعلن الحقيقة التي جعلته يرفض التسمية المتداولة لبدايات الإسلام في المغرب. فعوَّض ضيف السيد عصيد وبطريقة ملحة كلمة 'إسلامي' ب 'عربي' في وصفه للفتح الذي غير ساكنة المنطقة رأسا على عقب، من شعوب غير مسلمة إلى شعوب مسلمة لا تريد أغلبيتها للإسلام بديلا. فهل هو فعلا فتح سمح مبين كما يؤكد أنصار الدين الحنيف، أم هو غزو مشين مهين كما يعتقد العلمانيون واللادينيون في مغرب الألفية الثالثة؟ يبدو أن الإجابة على هذا السؤال أسهل مما يعتقد الكثيرون.
ببساطة لأن التسمية تعكس بالضرورة موقفنا القناعاتي (الإيديولوجي) من مسألة دخول المسلمين شمال إفريقيا. اختيارك لمقولة من المقولتين يحدد موقفك من انتشار الإسلام واستمراره في شمال إفريقيا والمغرب الأقصى كنموذج. إما أن تكون من المسرورين المبتهجين بإسلامية المغرب ومن الراغبين في إدامته وترسيخه في كل طيات المجتمع، أو أنت من الرافضين الأشداء لذلك والداعين لنظام علماني محض تكون له الكلمة العليا فوق الدين وفوق السلطة الدينية. وبين هذا وذاك هناك طبعا مواقف أخرى تتوسط قليلا أو كثيرا كلا المتناقضين. ولعل السيد أوعشي من الفئة الأخيرة، لأنه تجنب التطرف ولم ينعت الفتح الإسلامي بالغزو العربي، واكتفى بتسميته "الفتح العربي". وكأنه أراد بذلك التزام نوعا من الحياد الموهوم. لكنك إذا وضعت هذه التسمية في سياقها التي استعملت فيه ومن أجله، فإن السيد أوعشي يبدو للمشاهد جليا على أنه من الرافضين لأسلمة المنطقة، ومن الطامحين إلى إبعاد هيمنة الدين بكل مظاهره المختلفة على المجتمع المغربي. ذلك من أجل إفساح المجال لعلمانية متجذرة منشودة، تبدو حتى الآن حلما بعيد المنال.
!لو لم يصل الإسلام شمال إفريقيا لما كنتَ أنتَ أنتَ ولما كنتُ أنا أنا
لو لم يصل العرب والإسلام شمال إفريقيا، لكانت هذه المنطقة قد عرفت تاريخا آخر مغايرا تماما لما هو عليه الآن. فالعرب لم يأتوا المنطقة بدين يسمى "الإسلام" فقط. لقد جاءوا أيضا بثقافة مغايرة تماما لثقافة محيط المنطقة. أتوا بعلاقات اجتماعية مختلفة وبنمط عيش وسلوك مختلف. أسسوا بكل بساطة مجتمعا مختلفا عما كان عليه وعما كان سيكون عليه لو لم يأتوا. هذا يعني أيضا أن كل المدن الكبيرة والصغيرة وحتى القرى الكبيرة والصغيرة كانت ستتطور بشكل مغاير ومختلف لما سارت عليه الأمور الآن. كانت ستتطور مدن ولا تتطور أخرى، تظهر مدن ولا تظهر أخرى. وبالتالي تتلاقى جماعات بشرية مع بعضها ولا تتلاقى أخرى. تتعارف شرائح من المجتمع قي ما بينها ولا تتعارف أخرى. لَمَا كتبتُ أنا مثلا ولما قرأتَ لي أنت. لَمَا كنتُ أنا موجودا ولما كنتَ أنت.
لكان كل شيء مختلفا تماما عما هو عليه الآن. في تلك الحالة كان التاريخ سيتخذ مجرى آخرا لن يستطيع أحد التكهن بالاتجاه الذي كان سيتبعه. فهل تعتقد أن أجدادك أنتَ قارئ هذه السطور، وجداتَك الأقربين والأبعدين كانوا حتى في تلك الظروف المحتملة الأخرى سيصادفون بعضهم البعض كلهم وبلا استثناء، ويتم التزاوج والتناسل كما سارت عليه الأمور إلى هذا اليوم ويخلفون وراءهم بالتوالي والتتابع نفس البنين و نفس البنات؟؟ الاحتمال ضعيف إلى درجة يصعب تصورها. وبالتالي يصعب أيضا تصور وجودك أنتَ، وتصور وجودي أنا في عالم اليوم. أليس وجودُك ووجودُ أهلِك وذويك راجع - بطريقة أو بأخرى- إلى هذه الفتوحات الإسلامية التي غيرت وجه التاريخ في المنطقة وأتاحت كنتيجة لذلك، فرصة الكينونة لك ولأهلك الأولين واللاحقين في عالم الأمس واليوم؟ إذاً: لو لم يدخل الإسلام شمال إفريقيا لما كنتَ أنتَ أنتَ ولما كنتُ أنا أنا.
دعنا نضرب مثلا مضادا. تصور معي لو أن الإسلام لم يغادر إسبانيا الأندلسية إلى يومنا هذا. لسادت القيم الإسلامية إلى هذه الساعة، ولسادت التقاليد والأعراف في التزاوج والاختلاط في المجتمع الإسباني الأندلسي إلى هذه الساعة. لاختلط إذا الجنس الأمازيغي بالعربي والأندلسي والكاطالاني والباسكي، ولأعطى للمجتمع الأندلسي في تلك الحالة خليطا متجانسا من شتى الشرائح والأطياف. ذلك المزيج كان سيعطي بدوره تركيبة سكانية و اجتماعية أخرى وبالتالي أفرادا آخرين. فلإسبانيا الآن والأمر كما هو عليه الآن، ليس فقط سننها وقيمها البعيدة كل البعد عن سنن وقيم الإسلام، ولكن لها أيضا تركيبتها السكانية الخاصة بها وأشكال التعارف والتزاوج الخاص بها، الممتد عبر أجيال وأجيال، خلال قرون وقرون. وهو الأمر المستبعد حدوثه على الوجه الذي سارت عليه هناك، لو بقي الإسلام سائدا في إسبانيا الأندلسية إلى هذه الساعة.
فُتِحت الهندُ والسِّند وأسْلَمت دون أن تدخُلَها جيوشُ العرب
الفتوحات الإسلامية في شمال إفريقيا تمت في أوجه كثيرة منها كما تمت في شبه الجزيرة الإيبيرية. فهي فتوحات تمت بتضامن المسلمين عربا وغير عرب وتآزرهم وتآخيهم فيما بينهم. فالإسلام لم يُبنَ لا على العرق ولا على العصبية، بل على التقوى وعلى التقوى وحدها. فلو كان دخول الإسلام إلى الأمصار يتم فقط عن طريق جيوش العرب الطامعين في التحكم في رقاب البلاد والعباد، لما دخل الإسلام تركيا وإندونيسيا وماليزيا وباكستان وأفغانستان... بالإضافة إلى إسلام عشرات الملايين من الصينيين في قلب آسيا. كل ذلك حدث دون دخول ولا حتى وصول جيوش العرب تلك الأقطار!
لينتشر الإسلام في بقاع الأرض الواسعة، تحتاج رسالته إلى من يعكس قيم الإسلام الخالدة ويمثل أخلاقه النبيلة أحسن تمثيل. يحتاج الإسلام إلى رجال ونساء أقوياء يرفعون راية الإسلام عاليا، فقط بالكلمة اللينة والسلوك المستقيم في القول والفعل. فأمثال هؤلاء هم من حمل الإسلام على أكتافه إلى أعماق الهند والسند وإلى مشارف أوروبا وأدغال إفريقيا، وساهم في استمراره وديمومته إلى الآن.