"رويترز"
جورج جحا
يكتب الشاعر المصري جمال القصاص في مجموعة قصائده الجديدة وعنوانها "نساء الشرفات" عن الذكريات والاحلام والرغبات والمغامرات وعن مرور الزمن وصور التحول التي تنتج عنه.
واذا كان تخصيص 117 صفحة متوسطة القطع لموضوع واحد امرا ليس سهلا دون شك فان جمال القصاص نجح في جعل الموضوع ذا وجوه وصفحات متعددة مختلفة لكل منها عالمه الخاص ضمن عالم المجموعة العام الجامع الشامل.
وقد نجح ايضا في الا يجعل بعض هذه الموضوعات يأتي "عالة" على ما سبقه ويبدو منجرا وراءه انجرارا لا حياة فيه.. وأعطى كلا منها جوه الخاص وتوتره الخاص وصوره وايحاءاته المميزة عن سائر المجالات وفي الوقت نفسه حافظ على صلة القربى والشبه بين اقسام المجموعة.
وجمال القصاص درس الفلسفة وتخرج من كلية الاداب في جامعة عين شمس والتحق بالعمل في مكتب القاهرة في صحيفة الشرق الاوسط ثم تولى ولا يزال يتولى رئاسة القسم الثقافي فيها.
صدر الكتاب عن دار العين للنشر. وتوزعت المجموعة على تسعة عناوين هي "على شكل طائر" و"غبار النوم" و"حصة الجسد" و"جسر الفراشة" و"شارلي شابلن" و"ما تحت القميص" و"رغبة أدفأ" و"شرفة دالي" و"سطح الزبد".
الكلمة الشعرية عند جمال القصاص حتى عندما تبدو ذات مدلول عادي هي ذات نبض ومشحونة بالتوتر الذي لا حياة شعرية دونه.
ويظهر ذلك في بداية القسم الذي حمل عنوان "على شكل طائر" وبدا كأنه يروي قصة لا المجموعة كلها فحسب بل قصة العمر والتجارب على ألوانها.
يقول مستهلا المجموعة "انغمس الطفل في الكراس. لم تعجبه الشجرة الصماء رسم لها اذنين وشفتين. تذكر انها لا تتكلم علق في عنقها جرسا... حبة الملح لم تستر عورته. فكر ان يغفو قليلا. ان يتلصص على نفسه. ان يختصر النهاية. لا اثر يعيد ترتيب الاوراق او يمنح الاشياء شهوتها.
"كل شرفة زمن. كل زمن ماء. كل ماء يد جوع.. اخرجي ايتها الطفولة شققي معطفك وأنت ايتها المرأة لا تستحمي بمائي. انا لست نارا. منذ زمن انطفأ عريها.. شيخ اغتالته محبته. افسدته حصاة. علمها كيف تطير. كيف تحتطب الحروف.
"من اي جدار مهمل سوف تهبطن. من اي بؤس ستسرقن الحكاية.. لا اعرف كيف احرسكن. كيف اتخيلكن.. قلبي لم يعد طفلا وجسدي لم يعد يوقظني."
ننتقل بعد ذلك الى قصيدة "ذات جمال وايحاء حزينين وتحفل بأجواء الفقد والخسارة وفيها يقول "يا نساء الشرفات/ مهلا../ انا الاعزل حتى من نفسي/ لا ارث لي/ الحياة تمر تحت لساني مثل قرص المخدر/ لا استطيع ان استعيد اغنيتي/ لا استطيع ان اكتب/ حتى يتذكر احد/ انني عشت هنا.
"فلنجرب سويا/ ربما نتمكن من جلد هذا الهواء/ من صنع حلم على شكل طائر/ او نخلتين " او ارض" ننسى كيف تدور على نفسها."
ومن عنوان "غبار النوم" نقرأ مع جمال القصاص "الصباح مشمس/ بهمة تنفض الشرفات ما تبقى من غبار النوم " وسائد.. ألحفة.. سجاجيد.. اقمصة" ترك الليل غبشه على اطرافها/ ألوانها الكرنفالية تزركش صدر الهواء/ كأنها تبحث عن مهمة اخرى للحياة.
"حول قفص الطماطم التمست له الاعذار كلها/ وجهه الممتقع التف مثل ثمرة الكرنب/ ضغطت على اصبعه../ لا تنسى/ ابنتي الكبرى تتأخر في النوم.
"لم يفهم محتال البلياردو/ كعادته../ تعثر في العتبات "
ومن عنوان "حصة الجسد" وفي جو من الواقعي والرمزي نقرأ مع الشاعر ونتحسس ذلك النبض الحزين الذي يرافق كلامه الشعري حتى حيث يسخر "الشتاء ثقيل/ الاسرّة تمزق جدولها الصيفي/ حصص الجسد بلا موعد/ لا تنتهي الشرفات../ اياد وأرجل وسيقان/ صوصوة ترتق مريلة السماء/ كم يساوي/ نصف شرفة/ على نصف نافذة/ في نصف بسمة/ في نصف صرخة/ سأقترح وجها اخر../ رغيف وكوب من الشاي عودان/ من وشوشة النهر جرعة من ندى الدمع/ انكشف الغطاء/ فوق الرصيف ملائكة بلون الرماد/ بلون الصفيح."
ومن عنوان "شارلي شابلن" نقرأ الشاعر اذ يقول "بحكم العشرة/ وأواصر الدم/ اكتسبت لقب الارملة الحسناء/ يكفيها رجل واحد/ علقت في حضنه جرسها الصغير/ أطفأت شمعها كله/ شرفتها المربعة تتفنن في فصاحة الالوان/ نيئة مثل حبة الكرز/ مثل طلة الشمعدان."
ومن "رغبة أدفأ" نقرأ "ماذا يفعل حارس القبور/ تحت منعطف الشرفات/ اعتاد مصادقة الموتى/ يزرع الصبار فوق عظامهم/ وينتظر ان تنبت المشاعل في خطى التراب.
"الحياة مرثية صغيرة/ قفص تنسجه الروح/ من حطب الجسد.
"النافذة المعتمة انفرجت اساريرها/ هل يصعد " لا ادعية لا تراتيل لا جنازة" وحده الميت الحي."
ومن "سطح الزبد" نقرأ "لم تنته اللوحة/ دق الجرس/ القناع طار/ انفضحت اكاذيبي/ سأغير المفتاح/ اطوي الصفحة/ انا لم اكلمكن الا رمزا/ انخطفت../ نسيت ان انوع الحروف/ لا اعرف من اي جهة قد القميص/ لست ساحرا/ وعصاي شققها الموج/ لا لم اتهم احدا/ اقدس كل جرائمكن/ لا العين سمعت/ ولا الاذن رأت/ كل الادلة باطلة/ انا الشاهد الاعمى/ لماذا لا تصدقنني/ ألم تشبعن/ هل تريدن المزيد/ اكره ان انزع الرتوش/ ان اختصم نفسي.
.