رحمة الله أوريسي - العرب اليوم
يستدعينا سمير درويش ككل المرات أن نقف عند تلك الدلالات المتناثرة على سطح القصيدة والتأمل في تلك الأنثى التي تحضره، والأنثى التي يخاطب، فاشتق من ذاته الشاعرة ذاتا وأقحمها في النص لتنصهر مع تلك الكلمات الشعرية، ليستطيع من وراء ذلك محاورة تلك الأنثى فيقول:
"لستُ صديقَ الطبيعةِ البيضاءِ
ولا صديقَ أصدقائِهَا
لهَذَا حينَمَا أرسلتْ لِي طلبًا لمْ أُعِرْهُ انتباهًا
رغمَ أنَّ الفساتينَ الحمراءَ تُلْهِبُ ذَاكرتِي!"
تتجلى لنا القصيدة في صورة الرجل الذي يخاطبنا نحن– القراء- فيسيطر على تلك الكلمات ضمير الأنا الذكري الذي يستوجب حضور الضمير الأنثوي فيتصل بعد ذلك لتتكون لنا ثنائية الرجل والمرأة، فالشاعر يقر بأنه ليس بصديق الطبيعة البيضاء؛ أي أنه ليس بملاك وليس بالإنسان الذي يخلو من الأخطاء، كما أنه ليس بصديقها؛ أي أنه لا تربطه بتلك الأنثى أية علاقة أو صلة قرابة.
فهو ينفي أية تمازج ضمني أو معنوي، ظاهري أو باطني، بتلك الأنثى فهو ينطلق من مبدأ العدم والنفي، فاتخذ الغربة كحضور رسمي بينه وبين تلك الأنثى التي أتقنت دورها في إرسال تلك الدعوة التي لم تعرها الذات الذكرية/ الذات المشتقة/ الذات الشاعرة/ الرجل/ اهتمامًا على الرغم من أن ذلك الصنف من النساء يلهب ذاكرة الشاعر؛ أي أنه الصنف الذي يعشق، ويهوى ويحب، لكن لما تجاهل الشاعر- أو تلك الذات المشتقة الحاضرة في القصيدة- تلك الدعوة- أو ذلك الطلب- على الرغم من أنها تعنيه؟ وعن أي طلب يتحدث الشاعر؟ هل يقصد أن يتيهنا في بحر التعجبات؟ أو أن النص متكتم يستدعينا للبحث عن تلك الأجوبة وعن المعنى المغيب؟
في نصوص درويش، تختفي المعاني كليًّا وتبقى فقط تلك الرموز ترمينا هنا وهناك بحثًا عن مقصدية الكلمات، فإن "الحضور الصريح يتوارى من سطح النص وتطلع بدله مجموعة من الألفاظ تنوب عنه ".." أو يحضر بما يدل عليه رمزًا وايحاءً". "من كتابة لحظة المكاشفة الشعرية، إطلالة على مدار الرعب، لمحمد لطفي اليوسفي". ينتقل الشاعر بعد تلك الدعوة للحديث المتحيز الذي ينحصر فيه الحديث عن تلك الأنثى فيقول:
"ليستْ منتجةَ عسلٍ شفَّافٍ
رغمَ أنَّ آبارَهَا قريبةٌ من حدقاتِ العيونِ.
لكنَّنِي لستُ بائعَ بلاغةٍ جوَّالاً
يشعِلُ حوافَّ الآبارِ دونَ أنْ ينغرسَ فيهَا!"
يخاطبنا ليقر أن تلك الأنثى لا تنتج عسلاً صافيًا؛ أي أنها ليس بفريدة من نوعها، وعلى الرغم من ذلك فهي قريبة من تلك العيون، فالبئر عميق جدًّا عمق تلك المعاني المختزنة تحت لغة هذه القصيدة.
نجد أن الشاعر يحدث فوضى من التناقضات، فوضى من الرفض الظاهري والقبول الضمني والباطني، فكيف له أن يعشق تفاصيل امرأة لا يعيرها اهتماما؟ فعلاً تناقض غريب وامرأة تثير في الذات حب التطلع وقصيدة تدعونا لمعرفة ما وراء ذلك.
ذات لا تبيع الكلام ولا حتى تتجول بقول الحكمة/ البلاغة/ ولا يشعل نيران على تلك الحواف إلا وتعمق فيها.. ألهذه الدرجة تشتعل نار الرغبة في تلك الذات؟ ألهذه الدرجة تجعلنا الرغبة نعشق التناقضات؟ ونعشق من لم نعرهم اهتمامًا من البداية؟
يراودنا الغموض والتعتيم الضمني المسيطر على هذه القصيدة فتقودنا للإبحار وسط تلك التناقضات التي تستدعينا للتوقف تارة أو التسلح بما يلزم للتمكن من الحصول على المعنى المقصود والمغيب. يقول الشاعر:
"الأسئلةُ التِي تطفحُ علَى سطحِ جلدِهَا
ليستْ سوَى آثارٍ لحُمَّى الانتقالِ الضروريِّ
منْ جُذْوَةٍ لا تشعِلُهَا
إلَى وعدٍ يلهِبُ منابِتَ النجومْ!
وأنَا لا أستطيعُ أنْ أتبرَّعَ بأجوبةٍ حتميَّةٍ
عنْ أحاسيسَ ليستْ حتميَّةً بحالْ!"
يرسم لنا الشاعر على ذلك السطح مجموعة من التساؤلات التي تسيطر على تلك الذات الأنثوية، ويقر بأنها مجرد بدايات تستدعيها بالضرورة للانتقال من سؤال فعذاب، فعمق فسهر.. فــــ..، لكن الذات المقتصة/ الذات الذكرية/ ذات تأبى الإجابة عما يراود تلك الأنثى وتقف عاجزة عن منحها/ الأنثى/ إجابات قطعية– حتمية– على كل سؤال يعلو فوق ذلك الجسد، لكن هل يقصد التساؤل فعلاً؟ أم يغيِّب المعنى الأصلي بالتساؤل؟ ولما اتخذ من جلدها سطحًا لتلك التساؤلات؟ الشاعر يتكتم لكن اللغة تتكلم فما الذي يريد الوصول له يا ترى؟
ينتقل الشاعر بعد تلك الثورة المعنوية التي غرق فيها بين التساؤل تارة وبين انعدام الإجابة تارة أخرى، لإبراز السبب الذي يجعلنا نعشق ونحب ونتساءل فيقول:
"الوحدةُ الكئيبةُ ليستْ سوَى الوحدةِ الكئيبةِ
فمَا الذِي يُغْرِي بالبقاءْ؟!
"زُورُونِي كلُّ سنة مرَّة!""
هي الوحدة ولا يوجد سبب غيرها مبرزًا تلك الصفة التي تلازمها الوحدة الكئيبة على حد قوله؛ الحزينة، ليحاول بعد ذلك أن ينهي قصيدته بسؤال تعجبي استنكاري يقول: ما الذي يغرينا بالبقاء/ ويقصد ملازمة الوحدة وهي دعوة مصرحة منه بعدم البقاء في دوامة تلك الوحدة القاتلة المؤذية لكلا الطرفين سواء أكانت الأنثى أم الرجل، فيعطي لقصيدته نفسًا وجوًّا موسيقيًّا في أخر جملة مستحضرًا كلمات تلك المطربة الوطنية– فيروز، الصوت الوطني الذهبي الذي يشهده الجميع لقوة صداه وبلاغه تلك الكلمات- التي تزرع فينا الأمل تارة، وحب البقاء مع الآخر/ الأنثى/ تارة أخرى.
يتضح لنا من خلال التحليل السابق أن الشاعر اتخذ من تلك الثنائية: الأنثى/ الرجل، مادة رئيسية للحديث ربما عن الرغبة وعن الجسد وعن العشق، فتلك العلاقة تشتعل بالتناقضات، وعلى الرغم من ذلك يأبى أن يترك تلك الأنثى، فهو من ناحية يرفضها لكنه من ناحية أخرى يعشق جسدها، ففعل الانغراس وتلك الآبار، وتلك التساؤلات التي تطفح على جلدها ماهي إلا إيماءات ورموز اتخذها الشاعر كوسيلة ليتشح بها ويخفي المعنى الأصلي، هي ذات– ذات الرجل- ترغب في الدخول لأعماق تلك الأنثى، ذات تأبى أن تبقى بعيدة سطحية، بل ترغب وترغب وترغب، وعلى حسب قول الشاعر ذات ترغب في الانتقال لجذوة الاشتعال/ شرارة اللهفة تتضح في هذا المقتطف ونار الرغبة تشتعل عشقًا لذلك الجسد/ جلدها.
فتلك الذات/ الرجل ليست ببائعة بلاغة. فالشاعر ليس بنبي أو ملاك أو ذات حكيمة لتمنع نفسًا من تلك الممارسة، كيف له أن يرى البئر دون أن ينغمس في أعماقه، كيف له أن يرى الجسد دون أن يرغبه، دون أن يشتهيه، فالمرأة تثير فيه حب الاستطلاع وتلك الأحاسيس التي تعتريه ماهي إلا لذة قبلية تبعث في ذاته-المتصحرة المتعطشة- نفسًا لإرضاء تلك الرغبة.. ممتنعًا عن الإجابة كونه لا يحمل جوابًا قطعيًّا بما يشعر به تجاه ذلك الجسد.. مستغيثا في الأخير وداعيًا بضرورة الالتحام بين الأنثى والرجل كون تلك الوحدة قاتلة.. وهي إحالة مؤكدا منه على استهوائه لتلك الممارسة وعشقه لها.. فبعثت فيه لذة الحديث بتلك الأحاسيس.
لقد تمرد الشاعر بلغته وحاول بتلك التناقضات كسر الروتين اللغوي الذي تعودنا عليه، فاتكأ على رمزيته مستغيثًا بالجسد، مختزنا تلك المعاني المستبطنة من تحت ذلك الغطاء، ليؤسس لنفسه مملكة حرفيه، تتزاحم فيها الدلالات، لتفسح مجالات للمتلقي في التفسير والقبض على المقصدية المبيتة، فيأتي بعد ذلك التعتيم، وقت للانفتاح على النص بالمعنى الصريح.. فيكون الإخبار على شكل حديث وذلك من وراء التأويل.
النص الكامل للقصيدة
"لستُ صديقَ الطبيعةِ البيضاءِ
ولا صديقَ أصدقائِهَا
لهَذَا حينَمَا أرسلتْ لِي طلبًا لمْ أُعِرْهُ انتباهًا
رغمَ أنَّ الفساتينَ الحمراءَ تُلْهِبُ ذَاكرتِي!
..
ليستْ منتجةَ عسلٍ شفَّافٍ
رغمَ أنَّ آبارَهَا قريبةٌ من حدقاتِ العيونِ.
لكنَّنِي لستُ بائعَ بلاغةٍ جوَّالاً
يشعِلُ حوافَّ الآبارِ دونَ أنْ ينغرسَ فيهَا!
..
الأسئلةُ التِي تطفحُ علَى سطحِ جلدِهَا
ليستْ سوَى آثارٍ لحُمَّى الانتقالِ الضروريِّ
منْ جُذْوَةٍ لا تشعِلُهَا
إلَى وعدٍ يلهِبُ منابِتَ النجومْ!
وأنَا لا أستطيعُ أنْ أتبرَّعَ بأجوبةٍ حتميَّةٍ
عنْ أحاسيسَ ليستْ حتميَّةً بحالْ!
..
الوحدةُ الكئيبةُ ليستْ سوَى الوحدةِ الكئيبةِ
فمَا الذِي يُغْرِي بالبقاءْ؟!
"زُورُونِي كلُّ سنة مرَّة!""