مغاربة ونفتخر
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 النثر العربي أغدق القداسة على الرسائب الأدبية

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
الفجر

الفجر


عدد المساهمات : 295
تاريخ التسجيل : 26/01/2012

النثر العربي أغدق القداسة على الرسائب الأدبية Empty
مُساهمةموضوع: النثر العربي أغدق القداسة على الرسائب الأدبية   النثر العربي أغدق القداسة على الرسائب الأدبية I_icon_minitimeالسبت ديسمبر 29, 2012 7:20 am



العرب أونلاين- عبد الدائم السلامي

لمّا كان الترسّل نوعا أدبيا ينتمي إلى جنس "الكلام الجيّد" حسب تفريع أبي هلال العسكري "توفي نحو 395هـ"، في "كتاب الصناعتيْن"، لأقسام الكلام البليغ الذي تنضوي تحته كلّ من الرسائل والشعر والخطابة، حاز في مدوّنة النثر العربيّ مكانة هامة جعلت الكتّاب والنقّاد يهتمّون بفنون صناعته، حتى ارتقى عند أغلبهم إلى صفة الجنس النثري المقدّس ذي القواعد والوظائف والحدود المانعة لغيره من بقية الأجناس الكتابية من مخالطته.


لا شكّ في أنّ تقعيد صناعة الترسّل عبر ضبط وظائفها، وتحديد مواصفات أصحابها، هو الذي منح هذا الفنّ صفة القداسة في مدوّنة النثر العربيّ. وهي قداسة نُلفي ما يبرّرها في كثير ممّا ذُكر عن الترسّل بالمراجع الأدبية والدّينية، بل وبكتابات المترسِّلين أنفسهم.

فنحن واجدون في بعض المراجع موازاة كتّابها التامّة بين الرسالة الأدبية والرسالة الإلهية، وذلك من حيث أهليتهما بالتدوين الكتابيّ عكس ما كان سائدا من فنون الكلام الأخرى في العهد الإسلاميّ الأوّل. إذ احتازت الرسالة الأدبية في تلك الفترة صفةَ التعالي الذي يمتنع معها انتهاكها، من ذلك ما رُوي عن ابن عباس "ت 68هـ"، وفق ما ذكر الخطيب البغدادي "ت 392هـ" في "تقييد العلم"، أنه متى جاءه رجلٌ حاملا له سؤالاً من رجلٍ آخر عن أمر فقهيّ، ويطلب منه إجابة فيه مكتوبة، قال له: "أخبِرْ صاحبَك أنّ الأمر كذا وكذا، فإنّا لا نكتب في الصحف إلاّ الرسائلَ والقرآن".

بل إنّ صناعة الترسّل، عند بعض المهتمّين بها، لا تعدو أن تكون هبة ربّانية ينتقي الله لها مَن يشاء من عباده لممارستها، وهي في ذلك شبيهة بالوحي، حيث ورد في "صبح الأعشى" قول القلقشندي "ت 821هـ" مفاضلاً بين صناعة الترسّل وبين بقية الصناعات الأدبية الأخرى: "إلاّ أنها قد وقعت موقع الوحي والإشارة، ومالت إلى الإيجاز فاكتفت بالتلويح عن واسع العبارة، فعزّ بذلك مطلبها".

وفي السياق نفسه، يؤكّد الكلاعي "ت543 هـ"، في " إحكام صنعة الكلام "، أمرَ مشابهة الترسّل للوحي، فيذكر أنه صناعة فاضلة ذات منزلة رفيعة، ويدعو المترسّلين إلى التطهّر من الدنس في ممارستها، والعصمة من إتيان القبائح فيها، لأنّ "الواجب على من آتاه الله هذه الفضیلة، وبوّأه الدرجة الرفیعة، وعلّمه فصول الخطابة، وفقّهه في ضروب الكتابة، أن يُطهّرها من دنس القبائح".

ومتى ارتقت الرسالة الأدبية مرقى الرسالة الإلهية، وجبت حماية صناعتها من التحريف، وهي مهمّة سعى القلقشندي إلى تثمينها في مقدّمة كتابه، وحاول بمقتضاها التصدّي لكلّ ما من شأنه أن يهتك حرمة هذه الصناعة ويُذهب عنها قداستها، فخصّص لها فصلا "ضابطا لأسمائها بالحروف كي لا يدخُلها التبديل والتحريف". ولا يُخفي القلقشندي إيمانه بقداسة الترسّل من جهة وظائفه الاجتماعية والثقافية والسياسية، حيث يعتبره أنبل غاية، وأعلى منصب، بل ويرى فيه شرفا يضاهي شرف الخلافة، وغاية للإنسان تقف عندها جميع رغائبه، وهو في ذلك يتّكئ على قول المؤيّد: "الكتابة أشرف مناصب الدنيا بعد الخلافة، إليها ينتهي الفضل، وعندها تقف الرغبة".

ومادامت الرسالة، وصناعة الترسّل عامّة، شبيهة برسائل الأنبياء، ولها ما لتلك من صفات القداسة، فقد انسحبت قداسة الترسّل على أصحابه انسحابَ قداسة الرسائل الإلهية على أصحابها، إذ وقفنا في بعض المراجع على ما يُنبئ فيها بما ذهبنا إليه من تأويل. من ذلك أن مِنَ المترسِّلين الذين كتبوا لأنبياء الله مَن بعثه الله نبيّا في قومه، على حدّ ما يقول القلقشندي: "وقد ذكر علماء التاريخ: أنّ يوسفَ عليه السلام كان يكتب للعزيز، وهارونَ ويوشع بن نون كانا يكتبان لموسى عليه السلام، وسليمانَ بن داود كان يكتب لأبيه، وآصفَ بن برخيا ويوسف بن عنقا كانا يكتبان لسليمان عليه السلام، ويحيى بن زكريا كان يكتب للمسيح عليه السلام".

وهو قول، على خلوّه من الأسانيد، يشي برغبة القلقشندي في تأصيل قداسة الترسُّلِ. إذْ، في اشتراطه صفة "الإسلام" في المترسّل، وهو ما كنا تحدّثنا فيه سابقا، تأكيد منه لقدسية المترسِّلين أيضًا، حيث ذكر أن الصفة الأولى التي يتوجّب توفّرها في كلّ مترسِّلِ هي الإسلام، وذلك "ليؤمن فيما يكتبه ويُمليه، ويوثق به فيما يَذَره ويأتيه".

وإلى جانب شرط إسلام المترسِّلِ، أضاف القلقشندي صفة النزاهة شرطًا تنهض عليه طهارة عمل المترسُّلِ من جهة ويضمن له مهابته بين الناس من جهة ثانية، وصورة ذلك هي ضرورة "مجانبة الرِّيَبِ والتنزّه عنها، والطهارة منها. فإنها تُسخط الله تعالى، وتذهب بمهابة المرء".

ولا يُخفي القلقشندي تأكيده أهمّ صفة من صفات المترسّل، وهي كتمان السرّ، إذْ هي بالنسبة إليه صفة خطيرة وأمر ضروريّ لا بدّ من توفّره في كلّ مترسِّلٍ. فالسرّ روح الرسالة، ومتى كشف عنه المترسّل انتهك شروط صناعته، وأفسد خلالَه، وأفقده ذلك أهليةَ القيام بوظيفته. ولعلّ في تسمية ديوان الإنشاء "ديوان السرّ" إحالة إلى أنّ صناعة الإنشاء لا تزيد عن كونها صناعةً مادّتها الأسرار، وروحُها الكتمان، فمَن حفظ سرًّا اُؤتُمن عليه فيها حفظ شرف صناعته.

وفي هذه الشأن، يقول القلقشندي عن صفات المترسّل أنّ: "منها كتمان السرّ. وهو من أفضل الآداب في صحبة السلطان وغيره، وأعودِها بالفلاح على صاحبها: لأنّ كثرة الانتشار الدّاخل على الدّول إنما توجّه بتفريط بطائنها وصاحبها في أسرارها، وإطهارهم بما تقرّر في أذهان الملوك وعزائمهم قبل أن يُظهروه، فيجد العدوُّ بذلك الطريق إلى معالجة آرائهم بما ينقضها، ومقابلتها بما يُفسدها. على أنّ إفشاء السرّ من الأخلاق التي طُبع أكثر الناس عليها، وحيل بينهم وبين الإقلاع عنها، فمن علم من نفسه ذلك فليحذَر معاملة السلطان في أسراره وبواطن أموره، ولا سيما ما وُجد منها في باب حروبه ومكايده، فإنه إن ظهر منه على خيانة في السرّ، عرض نفسه للتهلكة".
وجليّ، ممّا ذكرنا من قول القلقشندي، أنّ قداسة صناعة الترسّل نابعة من اقترانها بكتمان السرّ فيها، ذلك أنّ في سرّانية الرسالة قداستَها، وأنّ في هتك سرّانيتها انتهاكا لتلك القداسة، وهو أمر يوجب على المنتهِك التعرّض للتهلكة والعقاب.
ولقد وجدنا لصناعة الترسّل تصوّرا فنيّا وقدسيّا لدى أحد شيوخها النابغين فيها وهو شهاب الدين محمود الحلبي "ت 725 هـ" الذي أشرف على دواوين الرسائل طيلة خمسين عاما بكلّ من الشام ومصر، وصنّف فيها كتابه "حُسن التوسّل إلى صناعة الترسّل".

ورد تصوّر شهاب الدين محمود الحلبي لفنّ الترسّل وشروط تحقيقه ضمن حديثه عن سبب وضعه كتابه المذكور أعلاه، وهو تصوّر قام على مجموعة من المواصفات التي يدعو إلى ضرورة توفّرها في كلّ كاتب كي لا يتلبّس بصورة المترسِّل دون أن يتحلّى معها بمعنى فنّه.

وفي هذا الشأن، يقول: "... فإنه لمّا جعل الله لي في كتابة الإنشاء رزقا باشرت بسببه من وظائفها ما باشرت، وعاشرت من أجله أكابر أهلها وأئمّتها مَن عاشرت، ورأيت مِن مذاهبهم في أساليبها ما رأيت، ورويت عنها من قواعدها بالمجاورة والمحاورة ما رويت، واطّلعت فيها بكثرة المباشرة على طرائق، وألجئتُ فيها باختلاف الوقائع إلى مضائق، أيّ مضائق، ونشأ لي من الولد مَن عاناها وترشّح لها من بنيّ مَن لم أرض له بالتلبّس بصورتها دون التحلّي بمعناها، فأحببت أن أضع لهم ولمن يرغب في ذلك هذه الأوراق من فصولها قواعد، وأقيم لهم فيها على ما لا يسع الجهل به من أصولها وفروعها شواهد، ليأتوا هذه الصناعة من أبوابها".

ولم نورد هذا الشاهد، على طوله، إلاّ لكوننا وجدنا فيه تصوّرا عن الترسّل يتماهى فيه مفهوم الرسالة الديوانية مع مفهوم الرسالة الإلهية في كثير من وجوه القداسة التي ذكرناها سالفا، حتى لكأنّ الترسّل صار دين الكاتب، بل هو ديدانه الذي كلما تخلى عنه خسر دنياه. بل، لكأنّ الحلبيّ، في رؤيته للترسّل، يرتقي به من الفعل البشريّ القابل للخطإ إلى فعل يمتنع فيه انتهاك أصوله، ويُحرَّم فيه المسُّ بقواعده.

وهو إذ يفعل ذلك، يستخدم معجما دينيا يجعل من مراحل تبليغه لكتّاب الرسائل شبيهة بمراحل تبليغ دعوات السماء إلى النّاس، على غرار استعماله لألفاظ من قبيل: الله، الأئمة، المذاهب، الطرائق، الأصل، الفروع، القواعد، الرواية. وصورة ذلك نوجزها كالتالي:

•تأكيده أن الترسّل إنما هو توفيق من الله، وذلك في قوله: "فإنه لمّا جعل الله لي في كتابة الإنشاء رزقا". فالله، على رأي الحلبي، هو الذي يهدي الكاتب إلى هذا الفنّ الأدبيّ ويجعل له فيه رزقه ومعاشه.

•والترسّل مجال له أئمّته وعلماؤه الذين يتكفّلون بدعوة الناس إليه وإلى صراطه القويم، وفي هذا الشأن، يقول الحلبي: "وعاشرت من أجله أكابر أهلها [يعني صناعة الترسّل] وأئمّتها مَن عاشرت".

•وحتى يستمرّ فعل الترسّل في الزمن، يدعو الحلبيّ كل مترسّل إلى ضرورة رواية فنون هذا الأدب وأشكاله وما به تصلح صناعته عن شيوخه النابغين فيه، كأن يطّلع على رسائل المتقدِّمين وأن يتبيّن طرائقهم في تخيّر الألفاظ وأساليب الكتابة، وهو ما ييمكّنه من محاكاة تلك الرسائل في بداية عهده بالكتابة، فإذا استزاد من الاطلاع، زاد اقتداره على الإجادة في فعله الكتابي. وكلّ هذا له صدى في ما قاله الحلبيّ: "ورويت عنها من قواعدها بالمجاورة والمحاورة ما رويت".

•يشير الحلبي إلى أنّ الترسّل مجال أدبيّ متنوّع الأساليب الفنية كثيرها، وهو أمر ساهم في تفرّعه إلى مذاهب عديدة، لكلّ مذهب منها أتباعه ومشاربه الفكرية ووجهات نظره الفنية، وفي ذلك يقول: "ورأيت مِن مذاهبهم [يعني المترسّلين] في أساليبها ما رأيت".

•وكلّما تنوّعت مذاهب الترسّل الفنية، وزادت الحاجة إليه في الزّمن، اِضطرَّ المترسّلين إلى الاجتهاد فيه وفق ما يطرأ عليهم من وقائع فكرية وسياسية ذات مضامين غير مألوفة ممّا تعوّدوه من أمر صناعته، وهذا ما يحفزهم إلى إعمال العقل في تلك الصناعة بما يتناسب والمستجَدّ من الوقائع المعيشة وفق ما يشير إليه قول الحلبي: "وألجئتُ فيها باختلاف الوقائع إلى مضائق".

•ولا ينسى الحلبي تأكيدَه أنّ صناعة الترسّل ليست دورًا تشريفيّا يمكن أن يكتفي فيه المترسّل بصُوَره وتلبّس مظاهره، وإنما هي مكانة شريفة تحتاج ممّن تقلّد أمرَها الوعيَ بنُبل معانيها، وبضرورة جمعه فيها بين الصدق في ممارستها والإخلاص لها، إضافة إلى المواءمة بين صورتها ودلالاتها، وعلى هذا ينعقد قوله: "وترشّح لها من بنيّ مَن لم أرض له بالتلبّس بصورتها دون التحلّي بمعناها".

ولا يخفى، في الذي مرّ معنا، تفريع الحلبي تصوّره للترسّل، في ديوان الإنشاء، إلى جزءيْن: واحد مخصوص بالترسّل بوصفه فنا كتابيا له مذاهبه الأسلوبية والفنية، وثان متعلّق بالمترسِّل من جهة فعله الرسائليّ وما يتحتّم عليه فيه من شروط تقنية وسلوكية.

وهو تصنيف شاكله تصنيف القلقشندي للمترسِّلِ وأسلفنا الحديث عنه. وفي هذا الشأن، يذكر الحلبيّ موجبات ظهور الترسّل، وضرورة الإيمان به، وبيان قواعده، وضبط حدود الاجتهاد فيه، وتوصيف أحوال المؤمنين به، وواجب إلمامهم بكيفيات رواية أخباره بأسانيدها، إضافة إلى الصدق في صناعته والإخلاص لها بعدم انتهاك سرِّيانيتها.

وفي تفريع شهاب الدين محمود الحلبي للترسّل وذِكر طرائقه ومضائقه، نلفيه لا يغفل التذكير بـ"قداسة" هذه الصناعة، وذلك من حيث عراقتها في الفعل الكتابيّ، وقيامها على شروط فنية وسلوكية هي منها مذاهبها وأساليبها، وتوفّرها على مؤمنين بها يحرصون على تبليغ فنونها إلى أتباعهم، ونهوضها على مبدإ الاجتهاد في فروعها دون أصولها، وامتناعها عن الانتهاك أو التحريف أو احتمال الخطإ فيها.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
النثر العربي أغدق القداسة على الرسائب الأدبية
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
مغاربة ونفتخر :: . :: بـوابــة ادب وشــــــــــــعر-
انتقل الى: