العرب أونلاين
لم يخلُ اتصالُ "الأدبي" بـ"الدّينيّ" في ثقافتنا العربية الإسلامية من جدلٍ أثار كثيرًا من الإشكالات لعلّ أهمّها السؤال حول كيفيات استفادة الأدبيّ من الدّينيّ جماليا، ومدى محافظة النص الإبداعي، والروائيّ منه بالخصوص، على "حرمة" النص الدّينيّ عندما يستثمر طاقاته الإيحائية ويتكئ على بعض شخوصه لبناء أحداثه السردية.
في هذا الصدد، يذهب الأكاديمي العراقي شلتاغ عبود شراد، في مقال له بعنوان "شخصية عالم الدين في الرواية العربية" نشرته شبكة الإمامين الحسنين عليهما السلام للتراث، إلى القول بأنّ الروائيّين قد رسموا "منذ رواية "زينب" لمحمد حسين هيكل مئات الشخصيات الإنسانية من مختلف الطبقات الاجتماعية، وقد حالفهم التوفيق في الأعم والأغلب منها، غير أن هناك شخصية واحدة نالها الحيف والعسف حين تناولوها وصوروا حركتها الاجتماعية وتعاملها مع الناس، ولم يكن هذا الحيف والعسف مقصورين على عمل كاتب واحد أو إثنين، بل نجدهما يشملان معظم ما كتب الروائيون حول هذه الشخصية، ألا وهي شخصية "عالم الدين"، أو رجل الدين كما يسمونه".
وعلى هذا، يطرح عبود شراد السؤال التالي: "ترى لماذا يكون قصاصونا واقعيين وموضوعيين، ويتحرون الدقة في رسم أغلب الشخصيات التي يرسمونها، بينما يبالغون ويزوّرون شخصية العالم الديني في رواياتهم، فيظهرونها في أبشع صورة للدجل والجشع والأنانية والكذب والرياء، وحتى العمالة للأجانب!! ترى لماذا؟ هذا التساؤل هو الذي دعانا إلى كتابة هذا البحث الموجز؟".
وكإجابة عن هذا السؤال، يرى "أن القضية ليست قضية فنية محضة، بل هي قضية فكرية ترجع بجذورها إلى الصراع الحضاري بين الإسلام والغرب، إذا تحرينا الدقة في الملاحظة. ففي الفترة التي بدأت الرواية العربية تظهر بشكلها الفني المتكامل في العشرينات من هذا القرن.
كان العالم الإسلامي قد وقع تماماً في براثن الاستعمار الأوروبي، إذ مرت فترة كافية على الوجود البريطاني بمصر والخليج والجزيرة العربية، والاستعمار الفرنسي في الشمال الإفريقي، وفي سوريا ولبنان خاصة، وفي هذه الفترة كان الصراع دامياً ومريراً، وغير متكافئ القوى والأساليب، واستطاع الاستعمار بوسائله المتعددة أن يوجد جيلاً متغرباً تماماً عن عقيدته وأرضه وأهله. ونشأت نتيجة لهذا عقول وقلوب وعيون، لا تفكر ولا تحس ولا ترى إلاّ كما يفكر ويحس ويرى الغربيون".
ويرى عبود شراد أنه "حين نرصد الصورة التي رسمت لعالم الدين في الرواية العربية الحديثة، تقفز إلى أذهاننا – بناء على ما قدمنا – صورة رجل الكنيسة الأوروبي في الروايات الغربية"، ويُضيف قوله: "هذه الشخصية هي المصدر الذي استقى منه القاص العربي مادته، ذلك لأن هذا القاص تتلمذ فنياً على نماذج الرواية الغربية".
وتمثيلاً على صدقية رأيه، يدعونا الباحث إلى أن نقرأ معه تصورا لشخصية إمام المسجد الوارد في "عرس الزين" للروائيّ الطيب صالح، حيث يظهر الإمام "رجلا ملحاحاً، متزمتاً، كثير الكلام في رأي أهل البلاد.
كانوا في دخيلتهم يحتقرونه، لأنه الوحيد بينهم الذي لا يعمل عملاً واضحاً – في زعمهم – لم يكن له حقل يزرعه، ولا تجارة يهتم بها، ولكنه كان يعيش من تعليم الصبيان. له في كل بيت ضريبة مفروضة يدفعها الناس مكرهين. وكان يرتبط في أذهانهم بأمور يحلو لهم أحياناً أن ينسوها: الموت، الآخرة، الصلاة. فعلق على شخصه في أذهانهم شيء قديم كئيب مثل نسيج العنكبوت".
وهنا يتساءل: "هل الواقع يعكس لنا أن قرية ما في العالم الإسلامي، تنظر إلى إمام المسجد بهذه النظرة؟ مع علمنا أن أهل القرى أشد الناس ارتباطاً بالدين وممثليه؟ فهذه الصورة التي رسمها الطيب صالح، لا تعكس في الواقع إلاّ تصوره هو عن عالم الدين، وتصور أمثاله ممن عاشوا في لندن، أو باريس، أو تأثروا بأنماط الحضارة الغازية، من أمثال "إسماعيل والطاهر الرواسي ومحجوب وعبد الحفيظ وحمدود الريس" الذين اعتادوا حياة الفساد والخمر والرقص والغناء، فكان طبيعياً أن يناصبوا إمام المسجد العداء".